نعيش اليوم في عالم متسارع يُقاس فيه نجاح الأشخاص بالإنجازات والخطوات الكبيرة، وهو ما يجعل الكثيرون يعتقدون أنّ لا شيء قد يجعلنا أفضل سوى تحقيق هذه الإنجازات، ويخلق عقلية تركز فقط على النتائج، وتعرّف النجاح بالإنجازات الخارجية فقط.
بالطبع يبقينا هذا في حالة من الضغط الدائم، نشعر بأننا مطالبين بتحقيق الإنجاز تلو الآخر، دوامة لا نهائية من المحاولات، ناهيك بالطبع عن الضغط الذي ينتج في حالة فشلنا في تحقيق أحد هذه الإنجازات، كل هذا سيقودنا إلى حالة من التوتر المستمر داخل بيئة العمل.
وهنا يظهر الحل في التحول من الإنجازات إلى القيم ليحدث فارقًا جذريًا في رحلتنا، إذ بدلًا من ربط أفعالنا مع النجاح المتمثل في الإنجازات، ننتقل إلى التركيز على قيمنا الشخصية التي توجهنا في جميع الظروف. ما هو مرجع هذه الفكرة؟ وكيف تساعدنا على تحسين صحتنا النفسية في بيئة العمل؟ وكيف يمكننا الانتقال من الإنجازات إلى القيم؟
نشأت فكرة التحول من الإنجازات إلى القيم من علم النفس، وتحديدًا من مرجعين أساسيين:
أولًا: نظام العلاج بالقبول والالتزام الذي قدمه عالم النفس ستيفن سي هايز في ثمانينيات القرن الماضي، وهو نظام يستخدم حاليًا لعلاج العديد من الحالات النفسية والجسدية، ومن بينها التوتر في بيئة العمل. والفكرة الرئيسية هنا هي أنه بينما يمكن أن تتحقق الإنجازات فعلًا أو لا تتحقق، إلا أن القيم تظل ثابتة دائمًا ويمكنها توجيه الإنسان في جميع المواقف.
ثانيًا: علم النفس الإيجابي، وتحديدًا في تسعينيات القرن الماضي على يد عالم النفس مارتن سيلجمان، الذي أكد على أن وجود معنى لحياة الإنسان يتجاوز فكرة تحديد إنجازات معينة لا بد من تحقيقها.
تؤكد هذه الفكرة أننا لا نحتاج إلى تحقيق الإنجازات لنشعر بالراحة في بيئة العمل، وأنّ سعينا المستمر لتحقيقها يضعنا دائمًا في سباق لا يتوقف، في حين يمكننا التركيز على قيمنا الشخصية في جميع المواقف، وهذا سيحررنا في النهاية من الضغط، ويخلق لنا المعنى الحقيقي لحياتنا.
مثلًا، في العقلية القائمة على الإنجازات، ستفكر: "لا بد من الحصول على هذه الترقية العام القادم". وطبعًا ستعيش عامك في ضغوطات نفسية في انتظار انتهاء هذا العام، وإذا لم تحصل على الترقية قد تصاب بإحباط شديد، وتتوقف عن أي محاولة للتطور في العمل.
بينما العقلية القائمة على القيم، ستفكر: "سأستمر في تطوير مهاراتي الفنية طوال الوقت، وسأبحث عن مختلف فرص النمو السانحة بغض النظر عما سيحدث". هذا سيجعلك أكثر استمتاعًا بعامك ورحلتك وتعيش ضغوطات نفسية أقل، وإذا لم تحصل على الترقية ستفكر فيما تعلمته من التجربة وتستمر في تطوير ذاتك.
يمكن للتحول إلى القيم إحداث فارق مهم في صحتك النفسية في العمل، وهذا الفارق سيتمثل في النقاط الأربعة التالية:
1. التركيز على الحاضر
جزء مهم من أثر القيم هي أنها تركز على هنا والآن، أن تعيش الحاضر بكل ما فيك، في حين أن الإنجازات تركز أكثر على المستقبل. بالتالي فإنك عبر التركيز على القيم ستعيش حياة صحية تركز فيها على ما تفعله في اللحظة الحالية، بدلًا من القلق بشأن المستقبل.
2. اكتساب العمل معنى حقيقي في حياتك
عندما تكون قيمك هي مرجع قراراتك وتصرفاتك، فإن هذا يكسب العمل معنىً أعمق داخليًا، يتجاوز الإنجازات الخارجية مثل الترقيات أو المكافآت المالية، ويرتبط أكثر بوجودك كإنسان يؤمن بما يفعل.
3. تطوير عقلية النمو
عندما تربط ذاتك بإنجازات معينة ترغب في تحقيقها، فإنك تشعر بالفشل والغضب والإحباط إذا لم يحدث ذلك. أمّا الاعتماد على القيم فهو يطور عقلية النمو لديك التي تتجاوز مبدأ «الفوز أو الخسارة» هذا إلى مبدأ «التطور والتعلم»، وهذا يشجعك دائمًا على اقتناص كل فرصة لتتعلم منها بغض النظر عن النتيجة.
4. تقليل احتمالية احتراقك وظيفيًا
يقلل اعتمادك على قيمك من احتمالية احتراقك وظيفيًا، لأنك ستتخلص من الضغوطات والصراعات التي تخوضها لتحقيق الإنجازات، وستصبح أكثر هدوءًا في التعامل مع عملك، وقيمك ستجعلك أكثر التزامًا وإنتاجيةً فتستمر في العمل على المدى البعيد دون ضغط أو قلق.
بالطبع لا يمكننا بسهولة الانتقال من عقلية الإنجازات إلى القيم، لا سيّما إذا كانت فكرة في تسيطر على أذهاننا لسنوات طويلة. لذا، يمكنك تحقيق هذا الانتقال عبر مجموعة من الخطوات كالآتي:
الخطوة الأولى: حدد قيمك الأساسية في العمل
من المهم البدء بفهم القيم الأساسية التي تهمك في العمل، لأنها ستكون مرجعك لاحقًا في أفعالك وقراراتك. يمكنك التفكير في هذه القيم بإجابة الأسئلة التالية:
عندما تفهم الأسباب من وراء إجاباتك على الأسئلة، ستعرف المحركات الأساسية ودوافعك في العمل، ومنها ستعرف أكثر ما هي قيمك الحقيقية. من أمثلة القيم التي نهتم بها في بيئة العمل:
تمرين عملي: فكر جيدًا في القيم التي توجهك في العمل، واكتب أكثر خمسة قيم تهمك.
الخطوة الثانية: أعِد صياغة الإنجازات إلى التزامات مبنية على قيمك
بعد تحديد القيم، يمكنك إعادة صياغة أهدافك من ربطها بإنجازات وأهداف محددة، إلى التزامات تتسق مع قيمك، فهذا ما يجعلها فعّالة حقًا في بيئة العمل. كيف؟ لنأخذ مثالًا على ذلك، ونفترض أن لديك هدفًا متعلقًا بالتواصل في بيئة العمل.
كما ترى، لا يعني هذا التحول الاستغناء الكامل عن السعي لتحقيق أهدافك في بيئة العمل، لكنه يضعها في إطار أكثر مرونة مستوحى من قيمك الداخلية، وبعيدًا عن المكافآت الخارجية. وغالبًا في الحالتين قد يتحقق هدفك وتحصد النتيجة التي تريدها.
تمرين عملي: فكر في صياغة أهداف جديدة مرتبطة بالقيم الخمسة التي حددتها في الخطوة السابقة.
الخطوة الثالثة: حوّل تركيزك إلى العملية بدلًا من النتائج
بمرور الوقت نعتاد على الحكم وتقييم الأداء استنادًا للنتائج النهائية فقط، وقد يؤدي ذلك إلى حالة من الضغط النفسي المستمر، وبالطبع يكون ذلك في إطار العقلية التي تهتم بالإنجازات فقط.
في حين أن واحدة من أهم خطوات الانتقال إلى العقلية القائمة على القيم، تتمثل في تحويل تركيزك إلى العملية نفسها والخطوات التي تأخذها في عملك، وأن تربط هذه الخطوات بقيمك باستمرار.
توجد بعض الإجراءات التي قد تساعدك على الاهتمام بالعملية أكثر من النتائج:
تمرين عملي: تذكر آخر تحدي واجهته في عملك، وفكر في أهم ثلاثة دروس تعلمتها من هذا التحدي، وما القيم المرتبطة بهذه الدروس.
الخطوة الرابعة: ادمج القيم في قراراتك اليومية بالعمل
نتخذ يوميًا العديد من القرارات المهنية، مثلًا: كيفية التعامل مع زملاء العمل، وآلية تنفيذ المهام الموكلة إلينا، والقرارات المصيرية المتعلقة بترك العمل والبحث عن وظيفة جديدة أو قبول عروض عمل أخرى.
من المهم جعل قيمك هي المرجعية الأساسية لاتخاذ هذه القرارات لا الإنجازات، فهذا يعينك على اتخاذ قرارات متسقة مع ذاتك، ويقلل من شعورك بالتوتر أو الضغط نتيجة أن مرجعك هو منظومة القيم التي تؤمن بها.
توجد بعض الإجراءات التي قد تساعدك على دمج قيمك في قراراتك اليومية:
تمرين عملي: راجع قراراتك وأفعالك خلال الشهر الماضي، وقيمهما في إطار قيمك الخمسة التي حددتها سابقًا، وحدد ما كان بالإمكان فعله بصورة مختلفة.
أخيرًا، من المهم الإدراك أن الانتقال من الإنجازات لا القيم لا يعني بالمرة التخلي عن طموحاتك في تحقيق النجاح، ولكنها محاولة لوضع الأمور في نِصابها الصحيح، بأن تكون دوافعك منشأها قيمك الشخصية، ما يمنحك شعورًا بالرضا الحقيقي والمرونة النفسية في عملك، وأن تحقق إنجازات ذات معنى حقيقي لك.